تحقيق: الوعل الشارد من حضارة ما قبل الميلاد إلى متحف طوكيو
يقدم التحقيق التالي معلومات مهمة وجديدة عن الوعل اليمني الذي ظهر بملكية مؤسسة آل ثاني القطرية، ويكشف النقاب عن تمثال آخر للوعل بملكية مؤسسة آل الصباح الكويتية. يحاور هذا التحقيق اثنين من علماء الآثار اللذين قدما معلومات مهمة عن الوعلين، والمكان الذي تم تهريب الوعلين منه. كما يكشف عن السبب الذي جعل منطقة أثرية وتاريخية غنية عرضة للسرقة والنهب من قبل لصوص الآثار، ويرصد عبر خاصية التتبع الزمني عبر الأقمار الصناعية، الحفريات وأعمال البناء في منطقة كانت عاصمة الدولة القتبانية قبل الميلاد.
تحقيق- فاروق مقبل الكمالي موقع المشاهد
بين أروقة متحف طوكيو في اليابان، يقف وعل برونزي ينظر إلى البعيد، كأنه يقيس تلك المسافة التي قطعها شاردًا إلى بيئة لم يعهدها، قادمًا من قرون ما قبل الميلاد.
كان الظهور الأول في قاعة عرض قصر دو فونتينبلو بباريس، قصيرًا جدًا من 8 سبتمبر حتى 8 أكتوبر 2018، وكما تقفز الوعول على أرض الواقع بخفة ورشاقة وسرعة، انتقل الوعل البرونزي الذي يعرف بوعل برونزي “جنوب الجزيرة العربية، أواخر الألفية الأولى قبل الميلاد”، إلى متحف طوكيو، ليعرض هناك من نوفمبر 2019 إلى فبراير 2020، ضمن معرض تراثي ضم 117 قطعة أثرية تحوزها مؤسسة آل ثاني القطرية، من مختلف الحضارات العالمية.
الظهور المبهم في باريس
لكن الظهور اللافت للوعل في معرض دو فونتينبلو خطف أنظار المختصين بالآثار اليمنية والدراسات السبئية، حول الطريق التي عبرها هذا الوعل للوصول إلى هذا المكان، شاردًا عن قطيعه، وقادمًا من بلاد تبعثرت حضارتها في أرجاء الكون، لكن أحدهم لم يخطئ أن موطن هذا الوعل الشارد هو اليمن، وأنه قادم من أعماق الحضارة القتبانية التي ازدهرت في قرون ما قبل الميلاد.
يقول البروفيسور المختص بالآثار اليمنية منير عربش، وهو “بلجيكي من أصول سورية”، وعمل لسنوات ضمن المعهد الفرنسي للآثار باليمن، لمعد التحقيق: “حين عرض الوعل في قاعة عرض قصر دو فونتينبلو بفرنسا، أبلغنا المسؤولين في المعرض أن هذا الوعل مسروق من معبد في اليمن، وقام أمن تهريب الآثار في فرنسا بالتواصل مع سفير اليمن في اليونيسكو بباريس (المرحوم أحمد الصايدي)، لكنه كان من الصعب إيقاف القطعة التي دخلت فرنسا بطريقة رسمية، وادعت مؤسسة آل ثاني القطرية التي تحوزها، أنها قامت بشرائها من معرض في لندن، وكان من الصعب حجزه دون طلب من الجهات اليمنية المعنية.
وعلان في مجموعتين
يكشف عربش عن وجود وعل آخر بنفس الصفات، ضمن مجموعة سالم الصباح الكويتية، وأن المجموعتين الكويتية والقطرية لا تخلوان من قطع أثرية أخرى منسوبة إلى “جنوب شبه الجزيرة العربية” وهو المصلح الذي تستخدمه كافة المزادات والمعارض الخاصة ببيع الآثار والتحف بمختلف أنواعها، بما فيها المسروقة والمهربة من اليمن.
رابط الوعل الثاني في المجموعة الكويتية
ويوضح عربش لمعد التحقيق أن ما يوجد في مجموعة الصباح يتكون من حلي وتماثيل برونزية وحجرية ونقوش برونزية، مؤكدًا أن المجموعة تضم ما يقارب 100 قطعة يمنية، منها من مواقع الجوف، وكثير منها من موقع هجر العادي في مديرية حريب بمأرب.
من أين جاء الوعلان؟
في العادة تسلك الآثار اليمنية المهربة، وفقًا للمختصين، طريقًا طويلة من اليمن إلى مزادات العالم، لكن هذه الطريق تمر دومًا عبر إمارة دبى بالإمارات العربية المتحدة، حيث يتم تزوير أوراق بيع وشراء رسمية لتصبح جاهزة للعرض والبيع والتنقل دون أن يعترضها أحد، لكنها ليست الطريق التي عبرها الوعلان اليمنيان هذه المرة؛ وعل مجموعة آل الثاني، ووعل مجموعة الصباح.
هجر العادي موقع بكر وكان قبل 1990، منطقة حدودية بين شمال اليمن وجنوبه تحت مراقبة من حرس الحدود في المنطقة، وبعد إخراج القوات العسكرية في تلك الفترة، بقي الموقع على حاله، دون أن تجري فيه أي أعمال تنقيب أثري علمي، فدخلت مافيا وتجار الآثار للعبث بالموقع، وقامت بعمليات حفر غير قانوني، واستخرجت كثيرًا من القطع الأثرية”.
ولا يستبعد البروفيسور عربش لمعد التحقيق، أن الوعل الموجود في حوزة مؤسسة أل ثاني القطرية قد هُرب مباشرة إلى قطر، إذ لا تفسير آخر طالما لم تظهر وثائق شراء الوعل كما تدعي المؤسسة، ومن ثم ظهر بباريس للمرة الأولى، ومنها إلى اليابان.
ويوضح عربش أنه وأثناء عمله في اليمن من ٢٠٠٢ حتى ٢٠٠٩، كان حرس الحدود ومسؤولو الجمارك في المنافذ اليمنية متورطين في تهريب الآثار، بل إن الجمارك كانت تمنح القطع الأثرية وثائق جمركية، ويتم إخراجها بشكل رسمي من اليمن.
بحسب البروفيسور منير عربش، فإن الوعلين يعودان إلى منطقة اسمها “مريمة”، وتسمى حاليًا هجر العادي بوادي حريب محافظة مأرب، وكانا ضمن مقتنيات معبد شبعان، وجاء ذكرهم في دراسة علمية لأحد النقوش النذرية القتبانية، التي درسها الدكتور والباحث اليمني محمد علي الحاج، وظهر الوعل الآخر ضمن مقتنيات مجموعة سالم الصباح في الكويت، ومعروضًا في دار الآثار الإسلامية.
وكشف المختص بالآثار غيث هاشم، في منشور على صفحته في “فيسبوك”، عن مواصفات هذا الوعل، لافتًا إلى أن نقشًا مكتوبًا على الجانب الأيمن، تم ترميمه وإضافة النصف الخلفي له.
ولفت هاشم إلى أن النقش المكتوب في 5 أسطر، كُتب بخط المسند بحروف بارزة، ويحمل خصائص اللهجة القتبانية، وللأسف النقش غير مكتمل، لأن نصف تمثال الوعل مفقود.
يظهر خط المسند باللهجة القتبانية واضحا
معد التحقيق تواصل مع الباحث الحاج الذي يعمل في قسم التاريخ والسياحة في جامعة الملك سعود، والذي أوضح أن اهتمامه بمنطقة هجر العادي أو مريمة كان شخصيًا أثناء دراسته الجامعية في قسم الآثار بكلية الآداب جامعة صنعاء، وبين أن المنطقة لم تحظَ حتى اليوم بأي اهتمام حكومي، ولم تجرِ فيها أي استكشافات رسمية وأعمال تنقيب علمية.
وهو ما تحقق منه معد التحقيق من مدير عام حماية الآثار والممتلكات الثقافية في الهيئة العامة للآثار بصنعاء، عبدالكريم البركاني، الذي أكد أن “هجر العادي موقع بكر لم تتم أعمال التنقيب الأثري العلمي فيه، موضحًا أن الموقع قبل 1990، منطقة حدودية بين شمال اليمن وجنوبه، وكان هناك مجموعة من حرس الحدود في المنطقة، وبعد إخراج القوات العسكرية في تلك الفترة، بقي الموقع على حاله، دون أن تجري فيه أي أعمال تنقيب أثري علمي، فدخلت مافيا وتجار الآثار للعبث بالموقع، وقامت بعمليات حفر غير قانوني، واستخرجت كثيرًا من القطع الأثرية”.
البروفيسور المختص بالآثار اليمنية منير عربش، وهو “بلجيكي من أصول سورية”، وعمل لسنوات ضمن المعهد الفرنسي للآثار باليمن يقول أثناء عمله في اليمن من ٢٠٠٢ حتى ٢٠٠٩، كان حرس الحدود ومسؤولو الجمارك في المنافذ اليمنية متورطين في تهريب الآثار، بل إن الجمارك كانت تمنح القطع الأثرية وثائق جمركية، ويتم إخراجها بشكل رسمي من اليمن.
موقع مريمة على الخريطة- صور حديثة للموقع
يكشف الدكتور الحاج، في حديثه لمعد التحقيق، أنه درس 110 نقوش قتبانية من منطقة “مريمة” (هجر العادي حاليًا)، كان أبرزها نقش نذري نشره في مجلة السياحة والآثار في عددها 27 الصادر في مايو 2015، مبينًا أن بعض تلك النقوش كانت تهدى له من أشخاص في المنطقة.
حين عرض الوعل في قاعة عرض قصر دو فونتينبلو بفرنسا، أبلغنا المسؤولين في المعرض أن هذا الوعل مسروق من معبد في اليمن، وقام أمن تهريب الآثار في فرنسا بالتواصل مع سفير اليمن في اليونيسكو بباريس لكنه كان من الصعب إيقاف القطعة التي دخلت فرنسا بطريقة رسمية، وادعت مؤسسة آل ثاني القطرية التي تحوزها، أنها قامت بشرائها من معرض في لندن، وكان من الصعب حجزه دون طلب من الجهات اليمنية المعنية.
بحسب الحاج، يذكر النقش المؤرخ بعهد “شهر يجل يهر جب”، ملك قتبان، آخر مكربي مملكة قتبان (يرجح حكم هذا الملك في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد)، أن تماثيل برونزية قدمت كنذور من أحد سكان مريمة كان تاجرًا بمدينة شبوة عاصمة حضرموت حينها، للمعبود حوكم نبط إله مدينة مريمة الرئيس، في معبده المسمى شبعان، لأنه -بحسب النذر- قد حماه في أوقات الحرب والسلم.
لا احتمال ثانيًا لدى الدكتور الحاج عن مصدر الوعل البرونزي الذي ظهر ضمن ملكية مؤسسة آل ثاني القطرية، في كل من باريس وطوكيو: “هذا الوعل البرونزي يعد من نفائس الآثار اليمنية القديمة التي خرجت من معبد شبعان الذي هو معبد الإله حوكم إله مدينة مريمة، والواقع بالجهة الغربية من المدينة، وهو حاليًا ضمن مقتنيات آل ثاني بقطر. ويعزز الدكتور الحاج تأكيده هذا، بوجود نقش بخط المسند على ظهر الوعل.
ومن خلال تتبع صور الأقمار الصناعية للمنطقة المفترضة، ووفقًا لتأكيد الدكتور الحاج، فإن موقع المعبد في الجهة الغربية من منطقة هجر العادي. وتوصل معد التحقيق إلى أن حفريات في 2009 تسببت بإزالة أجزاء بارزة من بقايا المعبد، كانت تظهر واضحة في صور الأقمر الصناعية عام 2002.
تقدم صور جوجل إيرث آثارًا بارزة من بقايا المعبد في الجهة الشمالية الغربية من منطقة مريمة القديمة بمأرب في 2002 قبل الحفر
الدوائر الحمراء لأعمال البناء خلال العام 2020، في حرم مدينة مريمة القديمة، ويصاحب أعمال الحفر من أجل البناء استخراج وتدمير الكثير من القطع الأثرية. الدوائر الصفراء أعمال حفريات منذ العام 2009
كما ظهرت أعمال حفريات وبناء في أجزاء مختلفة من حرم المدينة الأثرية، تم تحديدها باللون الأحمر، بالمخالفة لقانون الآثار رقم 21 لسنة 1994، من الآثار الثابتة المتصلة بالأرض كبقايا المدن والمباني والتلال، مازالت عرضة لأعمال البناء والحفريات المصاحبة لها دون أي تدخل من السلطات الحكومية المختصة في الحكومة المعترف بها دوليًا، ممثلة بالهيئة العامة للآثار، لوقف ذلك، خلافًا لقانون الآثار.
الإحتمال القوي الذي يؤيده البروفسور في علم الآثار محمد الحاج عن هو أن الوعل البرونزي الذي ظهر ضمن ملكية مؤسسة آل ثاني القطرية، في كل من باريس وطوكيو يعد من نفائس الآثار اليمنية القديمة التي خرجت من معبد شبعان الذي هو معبد الإله حوكم إله مدينة مريمة، والواقع بالجهة الغربية من المدينة، ويعزز الحاج هذا الإحتمال بوجود نقش بخط المسند على ظهر الوعل
حيث تنص المادة 7 من قانون الآثار: “ملكية الأرض أو حيازتها أو استعمالها لا تكسب صاحبها حق التصرف في الآثار الموجودة ولا تخوله حق التنقيب عنها”.
كما تنص المادة 8: “في حالة وجود آثار ثابتة في أرض تثبت ملكيتها للأفراد وتقتضي المصلحة العامة المحافظة على تلك الآثار في موقعها كمعلم أثري، فيحق للهيئة مباشرة إجراءات نزع ملكيتها وتملكها مقابل تعويض عادل وفقًا لقانون الاستملاك للمنفعة العامة، ولا يدخل في تقدير قيمة الأرض المنزوع ملكيتها قيمة ما بها من آثار”.
رفض الاعتراف بمصدر الوعل
ترفض المجموعة القطرية الإفصاح عن مصدر الوعل، منذ عرضته في متحف دو فونتينبلو. وقال الأمين العام السابق للمتحف فينسينت دروجيه، حين تم سؤاله عن دور المتحف في التحقق من مصدر القطع الأثرية قبل عرضها، للقناة الفرنسية الثانية ((francetv، إنه تحقق من مصدر التمثال، من خلال الوثائق التي قدمها “أمين مجموعة آل ثاني”، في إشارة منه إلى الأوراق التي أبرزتها المؤسسة لتؤكد ملكية القطعة.
رابط تحقيق فرنسي عن الوعل اليمني-فبراير 2020
رفض التوضيح
مثلما رفض الأمين العام لمؤسسة آل ثاني القطرية الحديث للقناة الفرنسية عن مصدر الوعل المثير للجدل، لم يتلقَّ معد التحقيق أي رد بهذا الخصوص على الإيميل الذي أرسل للمؤسسة، والذي كنا نود من خلاله منح المؤسسة فرصة للتوضيح.
الوعل في الثقافة اليمنية
يمثل الوعل واحدًا من أهم الرموز في الحضارة اليمنية القديمة؛ حضارة جنوب شبه الجزيرة العربية، حيث ظهر على النقوش الصخرية، وفي المعابد والمنحوتات منذ الألف الثامنة قبل الميلاد. زاد استخدام الوعل في حضارات اليمن بشكل مكثف منذ بدايات الألف الأولى ق.م. ويظهر بشكل خاص کرمز إلهي، وبخاصة للإله السبئي ألمقه، وترتبط به الكثير من الطقوس الدينية وطقوس الخصب. ولكن ظهوره يتخذ سمات فنية متقنة منذ أواسط الألف الأولى ق.م. فيظهر في ديكور بعض معابد جوف اليمن التي يعود تاريخها إلى عصور ما قبل الميلاد. كما يظهر في ديكور اللوحات النذرية التي تعود إلى القرن الثامن ق.م. وغيرها. كما أن هناك الكثير من المنحوتات والتماثيل الحجرية والبرونزية.
المها في الثقافة القطرية
وعلى خلاف الموروث الثقافي والحضاري اليمني الذي يحتفي بالوعل، ويجعله الحيوان الوطني لارتباطه بالجبال، لا وجود للوعل في الموروث الثقافي القطري الذي يرتبط بحيوان المها ذي القرون الطويلة التي تشبه الرمح والعلامات الواضحة والمتباينة، هو واحد من 4 أنواع من الظباء التي تعيش في بيئة صحراوية قاسية، وموطنها الأصلي شبه الجزيرة العربية. ويعد المها الحيوان الوطني لدولة قطر.
عن موقع المشاهد