تريم.. قبلة العلم والحضارة

تريم.. قبلة العلم والحضارة
تريم الغناء (شواهد)

مدينة تريم التاريخية تعد من أقدم المدن في جنوب شبه الجزيرة العربية، تأسست في القرن الرابع قبل الميلاد. سميت باسم تريم بن السكون بن الأشرس بن كندة (أحد ملوك حضرموت). حضرموت هو اسم ملك بن سبأ الأصغر، وقد جاء ذكرها في النقوش اليمنية القديمة كترم في (نقش إرباني 32)، وكترم بالياء في (نقش جام 547). وقد كانت مدينة تريم عاصمة ملوك كندة. وفي صدر الإسلام، اتخذها زياد بن لبيد الأنصاري، عامل النبي صلى الله عليه وسلم، مقرًا لإقامته، وبقيت عاصمة وادي حضرموت إلى القرن العاشر الهجري.

كما أنها أصبحت مقرًا لكثير من الدويلات التي تعاقبت على المدينة، منها دولة آل راشد وأشهر سلاطينهم السلطان العادل عبد الله بن راشد، وإليه ينسب وادي حضرموت، فيقال له وادي ابن راشد.

ودولة آل يماني، التي أسسها مسعود بن يماني، واستمرت حتى قيام الدولة الكثيرية الأولى. وعندما تنازعت الفرق اليافعية تريم مع الدولة الإمامية في صنعاء، أصبحت تريم معزولة وخاضعة لثلاث سلطات. وفي عام 1847م، نجح السلطان غالب الكثيري في انتزاع السلطة في تريم من اليافعيين خلال حكم الدولة الكثيرية الثانية.

كما عرفت تريم (بالغنّاء) أي الواحة الغنية بأشجارها، وجاءت في وصف الهمداني بأنها مدينة عظيمة. وأجمل ما قيل فيها ما أورده الشيخ عمر المحضار بأنها بلاد الطبين: طب القلوب وطب الأبدان.

وتعتبر مدينة تريم من أهم المدن اليمنية والعربية والإسلامية، والتي اشتهرت عبر التاريخ بمدارسها الإسلامية وعلمائها. حتى ذكر أنه كان يوجد في بعض الفترات التاريخية ثلاثمائة مفتي في وقت واحد، حسب ما ورد في كتاب (معجم بلدان حضرموت) للمرحوم عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف. وقد اشتهرت مدينة تريم بالعديد من الزوايا والمساجد والمعاهد والأربطة العلمية التي تخرج منها العديد من العلماء والفقهاء عبر العصور الإسلامية حيث تضم (365) مسجدًا.

ويظل رباط تريم، الذي بني وتم افتتاحه سنة (1304هـ)، وقبة أبي مريم لتحفيظ القرآن الكريم، وجامع المحضار بمنارته العالية، وجامع تريم الذي عَمَّره الحسين بن سلامة في عهد ابن زياد، ومسجد الوعل، الذي قيل إنه أول جامع في تريم، ومزار أحمد بن عبَّاد بن بشر، وقبب آل الشيخ بن سالم أبي بكر، من أهم المعالم الدينية المزارة في مديرية تريم. وكذلك عشرات الزوايا العلمية الموجودة منذ عهود قديمة، والتي كانت منارة للعلم قبل افتتاح الرباط عام 1304هـ.
وهذا ما جعلها تتبوأ مكانة دينية كبيرة ومركزًا علميًا جاذبًا. ولا غرابة أن أطلق عليها مدينة العلم والعلماء، وقد تم اختيارها من قبل المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم “الإيسيسكو” في 2010 كعاصمة للثقافة الإسلامية.

إن مدينة تريم تحتوي على تراث عمراني وثقافي في غاية الأهمية، يتمثل في القصور الطينية البديعة التي تمزج بين الطرز المعمارية المستوردة من جنوب شرق آسيا وتقنيات البناء التقليدية الطينية. وقد بناها عُمّال بناء مهرة من أبنائها، الذين استطاعوا تكييف طريق البناء المحلية التقليدية لاستيعاب فنون العمارة الإسلامية والفنون الأخرى، وهو ما أكسبها مكانة متميزة.

وشهدت مدينة تريم تطورًا عمرانيًا منذ القرن الثاني عشر الهجري، وبلغت الحركة العمرانية أوج تطورها في أوائل القرن الرابع عشر الهجري. حيث تتكون بيوت تريم من ثلاثة أو أربعة طوابق، ويبلغ ارتفاع الطابق حوالي عشرة أذرع. وتمتاز بيوتها بمساحتها العريضة وبالنقوش والألوان في شكل دوائر وخطوط منتظمة منسقة. قد يكتبون على الجدران بألوان زاهية آياتٍ من القرآن الكريم أو أبياتٍ من الشعر. وفي بعض البيوت القديمة، توجد شِمْسة كبيرة للتهوية من الداخل. وتعد بيوت تريم آيةً من الروعة الهندسية، ومثالًا حسنًا للفن المعماري في الوادي. النوافذ والأبواب تُصنع من الخشب الجيد القوي (الأحمر)، وتكتب على الأبواب الآيات والنقوش وتُطلى السقوف بألوانٍ زاهية تبعًا للأذواق. تُبنى البيوت بالطين (اللِّبن) المخلوط بالتّبِن، ثم تُطلى بالجير (النّورة).

ومن أشهر المعالم الحضارية في تريم، منارة مسجد المحضار التي تعدّ من أهم المعالم الأثرية الإسلامية، التي بنيت من الطين عام 1222هـ الموافق 1801م. يصل ارتفاعها إلى 125 قدمًا، وتم طلاؤها بالجير (النورة) وتعد آية فريدة في البناء والفن المعماري الحضرمي الأصيل، وتقع في قلب مدينة تريم.

يوجد في مدينة تريم مكتبة الأحقاف، التي تعتبر من أهم المكتبات اليمنية. تشتهر بما تحتويه من المخطوطات، وتتكون من عدة مجموعات تنتمي إلى عدد من الأسر العلمية التي تبرعت بمقتنياتها من المخطوطات لمكتبة الأحقاف. تحتل المكتبة الدور الأرضي من مبنى جامع تريم. تأسست المكتبة نظرًا لكثرة المخطوطات في مدينة تريم والمدن المجاورة، وذلك لكون تريم كانت تتمتع بمركز علمي مرموق في وادي حضرموت منذ القرن الرابع الهجري. يوجد في تريم مجموعة من العائلات الشهيرة التي شغفت بجمع وشراء المخطوطات والكتب في مختلف ألوان المعرفة والعلوم ومن شتى المصادر من بقاع الأرض.

بالإضافة إلى ذلك، توجد عائلات وشخصيات من العلماء في مدن أخرى بالوادي، والتي ملكت هي الأخرى مكتبات خاصة ولكنها جعلتها وقفًا على طلبة العلم والعلماء. بعد أن وضعت بعثة مصرية مختصة بالمخطوطات “عام 1970م” دراسة لتجميع المخطوطات في مكتبة الأحقاف بتريم، التي أنشئت في شهر ديسمبر من عام (1970م). هذه الدراسة لم تنشر، وتضم المكتبة حوالي (5300) كتابًا مخطوطًا في شتى المعارف والعلوم (التفسير، الفقه، الحديث، الصرف، اللغة، الأدب، التاريخ، السيرة النبوية، الطب، الرياضيات، الفلك، وغيرها من المعارف والعلوم).

ونتيجة لأن إنشاء مكتبة الأحقاف كان بطريقة جمع المكتبات الخاصة، نجد أن هذه المكتبة تتكون من عدة مكتبات هي: مكتبة الكاف بتريم، مكتبة آل بن يحيى، مكتبة الربـاط، مكتبة بن سهل، مكتـبـة الحسيني، آل الجنيد، وغير ذلك. حملت كل مكتبة اسم صاحبها كتخليد لذكراه. كل مكتبة لها فهرس خاص بها، إلا أنه مؤخرًا تم فهرسة المكتبة بطريقة حديثة. تحوي المكتبة تحفًا نادرة من المخطوطات القيمة إما لندرتها أو لقدم نسخها وجودتها، أو مخطوطات أصلية تعتبر النسخ الأم.