زبيد.. جوهرة أثرية وتهديد مستمر (تحقيق)

زبيد.. جوهرة أثرية وتهديد مستمر (تحقيق)
زبيد في العام 1974 بعدسة السويدي بيورن وينغرين (فيسبوك)

تحقيق: نورا الظفيري

تعتبر زبيد واحدة من أهم المدن التاريخية اليمنية، حيثُ أدرجت المدينة في قائمة التراث العالمي في شهر ديسمبر من عام 1993، نظراً لما تكتسبه من أهمية تاريخية ودينية إلى جانب هندستها العمرانية وتخطيطها المدني المتفرد بين المدن الإسلامية.

المدينة التي ظلت عاصمة اليمن لقرون من الدولة الزيادية (تأسست 204 هجرية) وحتى الرسولية (بين القرن السادس وحتى النصف الثاني للقرن الثامن هجرية)، تبدو شبه دائرية محاطة بسور دفاعي ويتوسط المدينة سوق مركزي يرتبط عبر شوارع رئيسية بأربع بوابات متصلة بالسور، كما تتنوع داخلها البنايات والمنشآت كبيرة ومتوسطة وصغيرة وتتخللها المساجد والروابط العلمية والساحات الكبيرة والمتنفسات.

المباني التاريخية

تتكون زبيد وفق الإحصائية التي حصل عليها شواهد من الهيئة العامة للتراث (حكومية)، من 12 ألف منزل، بينها 4962 مبنى أثرياً، هي إجمالي المباني التي سلمت من التدخلات، وتضم المدينة التي احتلت مكانة كبيرة في العالم الإسلامي بسبب الجامعة الإسلامية، 27 مدرسة علمية من إجمالي المساجد التاريخية البالغ عددها 86 مسجداً ومدرسة دينية.

تتعرض  المدينة التاريخية للعديد من التهديدات والاضرار التي أدت إلى تضرر وانهيار مبانٍ أثرية قديمة، تشكل بمجملها جزءاً مهماً من عناصر المدينة التاريخية، ورصد تحقيق شواهد 46 مبنى أثرياً متضرراً بحاجة إلى تدخل سريع للإنقاذ من الانهيار والسقوط.

ومن أبرز البنايات والمنشآت الأثرية المهددة، مصبغة بيت بلكم، حارة ربع الجزع، حيث يزيد عمر المبنى عن 600 سنة، ويعتبر أحد البيوت الأثرية الكبيرة التي تمثل قيمة استثنائية للمدينة، ويمثل أحد المعالم التي سجلت في الملف الفني عند تسجيل  مدينة زبيد في قائمة التراث العالمي.

وفي حديثة لشواهد يقول محمد عبدالرحمن بلكم، وهو أحد ورثة بيت بلكم، إنه حاول التواصل وعمل مذكرات بحالة المبنى إلى الجهات المختصة في زبيد من أجل القيام بعملية انقاذ المبنى من الانهيار والسقوط بشكل كامل، دون أن يلقى تجاوباً.                                                    .

بيت بلكم
بيت بلكم
بيت بلكم
بيت بلكم

 

غير بعيدٍ عن بيت بلكم، يتعرض مبنى “قاسم كداف” الأثري، والذي يعود تاريخه لأكثر من 300 عام، لانهيارات مستمرة، بعد أضرار كبيرة، لحقت بالمبنى بسبب تساقط الأمطار خلال العام المنصرم 2021.

 

 

وثق التحقيق، أيضاً، الأضرار في بيت عبدالوهاب سعيد مقبل  الحمودي – ربع  الجزع، وهو مبنى أثري يبلغ عمره حوالى 400 سنة، بحسب النقوش والزخارف التي يتميز بها المبنى.

مبنى الحمودي الآثري يعود تاريخه لنحو 400 عام
مبنى الحمودي الآثري يعود تاريخه لنحو 400 عام (شواهد)

 

الأسباب.. اقتصادية بالدرجة الأولى

في حديثه لـ”شواهد”، يسلط ماجد ورو، ناشط مدني مهتم بشؤن الحفاظ على التراث الثقافي الإنساني، الضوء على الأسباب التي أدت إلى انهيار المباني الاثرية في مدينة زبيد، ويقول إن الحالة الاقتصادية للسكان تأتي بالدرجة الأولى، حيث جعلت أغلب السكان عاجزين عن صيانة وترميم مبانيهم، نتيجة للكلفة الكبيرة التي يتكبدها أصحاب البيوت الأثرية من حيث غلاء المواد التقليدية، بالإضافة إلى الوقت الذي يتطلبه البناء التقليدي، بما يضاعف تكلفة البناء.

إلى جانب ذلك، وفقاً لورو، تأتي التغيرات المناخية والتي أدت إلى فيضانات، وهذا بدوره أثر على المدينة التاريخية وألحق أضراراً في “عدد من المنازل الأثرية في ظل غياب الخطط الاستراتيجية وخطط الطوارئ من قبل الجهات المختصة”.

يحصر الانفوجرافيك التالي الأضرار التي تعاني منها المباني الاثريه في زبيد:

الأضرار التي تعاني منها المباني الأثرية في زبيد - انفوجرافيك شواهد
الأضرار التي تعاني منها المباني الأثرية في زبيد – انفوجرافيك شواهد

في دورتها 43 المنعقد في 2019، أعربت لجنة التراث العالمي “عن قلقها المستمر من أن مدينة زبيد التاريخية قد تكبدت دمارا لا رجعة فيه ولا تزال معرضة للخطر بسبب الوضع الأمني الحالي والتغير الاجتماعي المستمر والدعم والموارد المحدودتين لإدارة التراث والحفظ المادي على حد سواء”.

مشاريع ترميم بدعم اليونسكو والاتحاد الأوروبي

يجري حالياً عملية ترميم لبعض المباني المتضررة في أربع مدن تاريخية يمنية منها زبيد، في إطار ما عُرف بـ”مبادرة النقد مقابل العمل”، وهو المشروع الممول من الاتحاد الأوروبي بمبلغ قدره 10 ملايين يورو، ويشمل تعزيز فرص كسب العيش للشباب في المناطق الحضرية في اليمن، والتي تحظى بدعم اليونسكو. تهدف المبادرة، وفقاً للمنظمة، إلى “إيجاد فرص عمل للشباب اليمني في مجال ترميم التراث الثقافي وصونه، مع تعزيز التماسك الاجتماعي والقدرة على الصمود من خلال البرامج الثقافية”.

هذه المنحة دخلت مرحلة جديدة، مع الإعلان في الثالث من مارس الجاري، عن توقيع اتفاقية جديدة بين اليونسكو والاتحاد الأوروبي، بتمويل جديد قيمته 20 مليون يورو، لزيادة دعم القطاع الثقافي في اليمن وخلق فرض عمل لـ8 آلاف يمني ويمنية وحماية التراث الفريد للبلاد، وسيدأ المشروع في يونيو 2022 لمدة أربع سنوات على أن ينفذ في محافظات مختلفة من اليمن.

وبشأن المشاريع الجارية خلال الفترة الماضية، حاولت معدة التحقيق التواصل مع المكتب الفني لليونسكو بصنعاء، والصندوق الاجتماعي للتنمية، والهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية وفرعها في مدينة زبيد وهي الجهات المسؤول على تنفيذ المنحة للحصول على إيضاحات، بشأن معايير اختيار المباني الأثرية للترميم، والجهات المشاركة في عملية الترميم، والمراحل للترميم، وكم عدد البيوت المستهدفة للترميم، إلا أنها لم تلق تجاوباً من الجهات ذات الصلة.

ومن جهته، يقول عرفات الحضرمي مدير مركز المخطوطات وعضو لجنة الحفاظ في مدينة زبيد حول منحة اليونسكو والاتحاد الأوروبي إن “الدور الذي تقوم به اليونسكو في عملية إيجاد المنحة المالية لمساعدة سكان المدينة” كان لها أثرُ في “تخفيف من المعاناة التي يعانيها أبناء زبيد”، في ظل ما يصفه بـ”الحصار الجائر على المدينة وعلى اليمن بشكل عام غير انقطاع الرواتب”، إذ فُتحت فرص العمل لكثير من الشباب حينما غابت الكثير من الظواهر والنشاطات العمالية.

ويتابع حديثة أن المنحة ساعدت على ترميم البيوت التي بدأ فيها آثار الخراب، الذي يستمر سنوياً حيث يقوم سكان المدينة بصيانة دورية للمباني في السنة مرتين، ولكن “بسبب الحصار وانقطاع الرواتب عجز المواطنون أو السكان عن ترميم البيوت فساعدت منظمة اليونسكو في هذه المنحة في التخفيف في جانب الصيانة والترميم لبعض تلك المنازل”.

 

ترميمات تحتاج لسرعة المعالجة

رصد التحقيق عملية الترميمات التي حصلت في مدينة زبيد للمرحلة الأولى 40 مبنى أثري، و6 واجهات أثرية ، ورصف وتسقيف للسوق القديم، والذي أشتكى عدد من المواطنين من ترميمات غير مكتملة حدثت في منازلهم.

 

 

مدينة زبيد تحت قائمة التراث العالمي المعرض للخطر

منذ العام 2000، باتت زبيد مدرجة، في في قائمة التراث العالمي المعرض للخطر في عام 2000، ووفقاً لموقع اليونسكو فإن التهديدات التي أدت إلى هذا التصنيف، تشمل التدهور الخطير في التراث العمراني، حيث يتم استبدال نسبة عالية من المنازل السكنية بأبنية خرسانية ومتعددة الطوابق، وتدهور المنازل المتبقية في المدينة بشكل سريع، بسبب الدخل المنخفض السائد للسكان، واختفاء الدور الاقتصادي التقليدي للمدينة، وذلك منذ أن تم نقل أنشطة السوق إلى خارج المدينة.

وتقول المنظمة إن “السوق القديم” أصبح  فارغًا تقريبًا وخالياً من أي نوع من الأنشطة وإن المتاجر تتفكك، وإن المدينة تفتقر بشكل عام إلى أي استراتيجيات للحفظ وإعادة التأهيل، وزاد الوضع سوءاً بسبب التهديدات الناشئة عن النزاع المسلح في اليمن.

وتطلب المنظمة جملة من الإجراءات لمعالجة وضع المدينة، أشارت إليها العديد من القرارات الصادرة عن الاجتماعات الدورية للجنة التراث العالمي، بما في ذلك ما جاء في قرار الدورة 35 للجنة التراث العالمي المنعقدة 2011، باعتماد “حالة الصون المرغوبة لإزالة الممتلكات من قائمة التراث العالمي المعرض للخطر”، حيث يشدد القرار على أنه “لابد من القيام بعدد من الاجراءات منها، حالة الحفاظ على المباني التقليدية واستقرار سماتها المعمارية وتنفيذ الصيانة اللازمة، وضع أنظمة فاعلة يقبلها المجتمع لوقف الانتهاكات، حماية وتعزيز الأماكن العامة والمناطق الخضراء الخاصة والعامة، وضع استراتيجية لإدارة المخاطر”.

 

المخالفات العمرانية في زبيد تهدد المدينة

بدأت المخالفات العمرانية وبناء مباني إسمنتية تخل بالنمط التقليدي لمدينة زبيد التاريخية منذُ وقت مبكر، وقد زادت تلك المخالفات مع عودة المغتربين إلى بلادهم وذلك أثناء حرب الخليج 1990، حيثُ لم تضع الحكومة اليمنية برنامجاً يحافظ على المدينة في حينه.

وتتنوع المخالفات العمرانية من حيث المخالفين ونوعية ومكان المخالفة، من مخالفات لجهات حكومية، إلى مخالفات فاعلين خير، ونافذين وسكان للمدينة. وتتعدد نوعاً، من اعتداء على مساحات بيضاء ومتنفسات للمدينة إلى تضرر وتهدم مسجد أثري وإعادة بناءه بصوره مخالفة، إلى هدم مباني أثرية واستبدالها بمباني خرسانية، إلى الاعتداء على منطقة السور والخندق الخاص بالمدينة.

وحصلت معدة التحقيق على كشف يحصر مخالفات السور والخندق لمدينة زبيد الذي قامت به مكتب الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية فرع زبيد من التسعينيات وحتى 2007م، إذ بلغت 320 مخالفة فقط في منطقة السور والخندق، وبلغ عدد المخالفات من باب القرتب وحتى جنوب قلعة زبيد 36 مخالفةعدد المخالفات شمال القلعة مرورا بنوبة الحضرمي مبنى الهيئة 18 مخالفة، وعدد المخالفات من باب سهام وحتى نوبة الصديقية 49 مخالفة، وعدد المخالفات من نوبة الصديقية وحتى باب النخل 40 مخالفة، وعدد المخالفات من باب النخل وحتى باب القرتب 108 مخالفة،  ومن باب الشباريق  وحتى باب القرتب 69 مخالفة.

ووفقاً لنتائج مسح ميداني للبعثة المشتركة للمجلس العالمي للمعالم والمواقع الأثرية ولجنة التراث العالمي 2007، فإن أن أقل من 50% من النسيج المبني يعتبر قديماً، كما يوجد استبدال متصاعد للمباني الخرسانية، وفقاُ لمخطط الحفاظ والتنمية الحضرية لمدينة زبيد 2020.

 

مخالفات قانونية صريحة

وقد قامت معدة التحقيق بتوثيق 28 حالة من المخالفات داخل مدينة زبيد، لفترات زمنية متفاوتة وفي مناطق متنوعة من المدينة التاريخية ،والتي تعتبر انتهاكاً واضحاً لقانون رقم (16) لسنة 2013م، بشأن المحافظة على المدن والمناطق والمعالم التاريخية وتراثها الثقافي العمراني اليمني خصوصاً  لمادة 58 وجميع بنودها.

من بين تلك المخالفات، مخالفة عدنان المزجاجي ، حارة الجامع جنوب الجامع الكبير مباشرة التي تم بناءها بالخرسانة المسلحة والبلك الإسمنتي، حيث كان عبارة عن بيوت أثرية قديمة لنفس العائلة سابقاً، تم توقيف المخالف من قبل الأمن والجهات المختصة ولكن حدث أن نزلت لجنة من الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية  بصنعاء لمعاينة المخالفة ورفع تقرير، والذي بدوره بعد ذلك سمح للمخالف تلبيس الخرسانة بالياجور واستكمال البناء.

وقد حصلت معدة التحقيق على صورة من تكليف اللجنة من قبل المهندس مجاهد طامش رئيس الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية السابق:

صورة التكليف

 

مخالفة ابراهيم جهمي – حارة ربع المجنبذ، حيث تعتبر هذه المخالفة واحدة  من المخالفات العديدة في شمال  ميدان القلعة التاريخية ومبنى المخطوطات ومكتبة زبيد حالياً، وقد تم البناء خلال 12  السنه الماضية. وفي  ذلك مخالفة لقانون الحفاظ (16) لسنة 2013م، مادة (58) وجميع بنودها.

مخالفة عبدالواحد سيف–حارة ربع الجامع ، يقع المبنى ملاصق لمسجد المجذوب، حيث تم البناء بطريقة مخالفة للنمط المعماري التقليدي لمدينة زبيد، وهو عبارة عن بناء خرساني مسلح، وقد اشتراه عبدالواحد سيف عام 2015م أو 2016م، وعند منتصف مراحل البناء تم ايقافه بعد صدور حكم قضائي معزز بتأييد محكمة الاستئناف بالإزالة قبل سنتين ولكن لم  ينفذ حتى اليوم.

 

مخالفة سالم حسين علي بيلم- حارة ربع الجامع مقابل مسجد راجح ،مدخل السوق القديم من الجهة الغربية، حيثُ تم البناء بالخرسانة الاسمنت المسلح.

 

التهديدات والبحث عن الحلول

وفي السياق يقول ماجد ورو أن سبب انتشار المخالفات المعمارية في مدينة زبيد التاريخية “نتيجة ضعف وغياب المسؤولية الأخلاقية والقانونية على حد سواء من قبل المواطن أو التغافل من الجهات المعنية فعملية الضبط لإيقاف وضبط أي مخالفة هي عبارة عن تحصيل حاصل لتكديس محاضر الضبط”.

ويتابع أن “لغياب رؤية استراتيجية من قبل هيئة المدن التاريخية والجهات المختصة لإيجاد بدائل حقيقية وجادة لتغير واقع المدينة للأفضل”.

ويضيف أن ذلك يتطلب إيجاد مناطق سكنية أمنة تلبي احتياجات الناس من “خلال تنفيذ المخططات التوسعية المعتمدة خارج المدينة شمال شرق لتخفيف الضغط على بناء مساكن إضافية داخل المدينة القديمة والحد أيضا من تزايد أعمال البناء المخالف الذي مازال قائماً دون توقف الأمر  الذي تسبب بتوسيع حجم الأضرار وخطرها على المظهر العام للموقع المسجل على رأس قائمة التراث العالمي”.

من جانبه، يقول عرفات الحضرمي إنه “لكي تخرج المدينة من التراث العالمي من تحت الخطر وتعود إلى سابق عهدها فلا بد من وجود وحدة فنية أولا داخل المدينة”، على أن تكون “هذه الوحدة تكون ذات علاقة متوافقة مع سكان المدينة في كل ربع  ويكون هناك ممثلون رسميون لها في الوحدة الفنية”، ويشدد على أنه “لابد من وجود برامج خاصة بمراقبة عملية الصيانة المباني التقليدية وكذلك  عملية البناء، ويجب الاهتمام وترميم القلاع بشكل كامل وليس جزئيا والابواب يجب أن يتم توظيفها توظيفا متواصلا”.

على الرغم من الجهود المبذولة هنا أو هناك، تبقى مدينة زبيد التاريخية بما هي جوهرة أثرية، ضحية تدهور مستمر نتيجة تدخلات الطبيعة والإنسان، في ظل غياب خطط واستراتيجيات فاعلة لإنقاذ المدينة وحمايتها، بما يتناسب ومستوى المخاطر والأولويات.