المدرهة تراث صنعاني يقاوم الاندثار – وما العلاقة بموسم الحج؟

المدرهة تراث صنعاني يقاوم الاندثار – وما العلاقة بموسم الحج؟
من مهرجان عرش بلقيس إقامة المدرهة لسنة 2022

نورا الظفيري
تعتبر عادة التدره أو التمرجح على المدارة أو المراجيح في موسم الحج – دون أن يكون ذلك بدافع اللعب والتسلية – من العادات والتقاليد الشعبية المتوارثة في اليمن ولعلها نشأت من أصل خرافي حين كان الأنسان يعتقد أن عليه أن يحمي نفسه من الشرور بإحاطتها بالتمائم والتعاويذ.

وبهذا المعنى تصبح المدرهة مناسبة الدينية رمزا طوطميا انثروبولوجيا يمارسه الأفراد كخدمة يؤدونها لحجاجهم ليشعروا من جهة بالاطمئنان عليهم ويقدموا لهم الحماية ليضمنوا استمرار بقائهم.

وشهدت صنعاء مؤخراً، إحياء المدرهة، من قبل مؤسسة عرش بلقيس، التي تقول لـ”شواهد”، رئيستها دعاء الواسعي “سعينا في العام السادس على التوالي على أحياء هذه العادات والتقاليد التي تعتبر تراث لا مادي ونحافظ على الهوية الوطنية التاريخية في عادة أصبحت تندثر أو اندثرت بمعنى الأصح ولم يبقى منها الا الاهازيج والاناشيد”.
وتضيف أن ما تبقى من المداره “قليل جداً ولا تتعدى العشرة، ولذلك حرصنا على ابقاء هذه العادة للموسم السادس… وليس هدفنا الوصول للقمة بقدر ماهو مهمة الإستمرارية، حيث يعتبر النجاح الحقيقي هو الإستمرارية وليس من الضروري الوصول للقمة والاستمرار في إحياء التراث والسياحة وان نحافظ على ثقافتنا وتراثنا وتاريخنا وهويتنا لان هذه عادة اجتماعية مهمه هذا حفاظ على ذاكرة وجدانية تحملها تفاصيل المدرهة.

وفي حوار سابق لمعدة التقرير مع وكيلة في الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية، أمة الرزاق جحاف، رحمها الله تعالى، عن المدرهة وما إذا كان لها ارتباط بطقوس غير موسم الحج تقول إنه “لم تكن عادة نصب المدارة لأغراض خاصة تقتصر على موسم الحج، لكنها أيضا كانت تعتبر عادة مهمة وملازمة للطقوس التي كانت تقام أثناء المواسم الخاصة بالزيارات الشعبية لأضرحة الأولياء والصالحين”.

وتضيف أنها شهدت ذلك في طفولتها، مع أنها كانت “غير قادرة على تفسير ذلك – إلا أنني بعد تعمق في دراستها أصبحت أعتقد أن وجود المدرهة في هذه الزيارات يعتبر أيضا طقس من طقوسها التي ربما كان يعتقد أنها تساعد الروح على عودتها لذلك الجسد الذي فارقته” .

المدرهة عادة يمنية قديمة
ترى جحاف أن إقامة المدارة في موسم الحج من كل عام عادة يمنية قديمة، لا أحد يعرف بالتحديد متى بدأت، ولا لماذا ارتبطت بموسم الحج ، إلا أن المؤرخ الكبير الراحل مطهر الإرياني يعتقد “أن السر النفسي والباعث العقلي والفكري لنصب المداره أو المراجيح في هذه المناسبة، إنما جاء من كون كل ارجوحة أو مدرهة معلقة في الهواء لها قانون يحكمها، فلها ذهاب إلى الأمام وعودة إلى الخلف، فإذا كان ذهابها إلى الأمام يتم بالإرادة وبالفعل الإنساني الذي يتم بالدفع من الخلف باليدين مثلا (أو ركض الأرض) مثل الرحيل للحج الذي يتم بالعزم والانطلاق من قوة الدافع الديني”.

وحسب التفسير “فإن أمر عودة المدرهة -أمر قدري حتمي لابد من حدوثة، بقوته الذاتية، أو بقوة قانونه العلمي المرسوم، الذي يحكم على الجسم المعلق إذا ما مال عن مركز تعامده بقوة دافع ما، أن يعود تلقائيا إلى الوراء، ثم إلى الأمام، وهكذا حتى يستقر إلى وضع تعامده على مركزه، ومركز تعامد الحاج هو وطنه، وبيته وأهله، ومن هناء جاء تفاؤلهم بعودة الحجاج على هذا النحو المحتم، وجاء تشاؤمهم أيضا من انقطاع حبل المدرهة أو سلسلتها الحديدية، ويعدونها مهالك قد يتعرض لها حجيجهم خاصة قبل أن تتطور- حديثًا – وسائل المواصلات، حيث كانت رحلة الحج رحلة شاقة مليئة بالمخاطر والمخاوف).

وتقول جحاف إنه بالرغم من أننا حتى الأن لا نستطيع أن نجزم متى بدأت – تحديداً- هذه العادة الاجتماعية الشعبية الجميلة والتي تنفرد بها بلادنا حسب علمي لقلة المصادر والمراجع التي تناولتها، إلا أن كتاب السلوك لمؤلفه بهاء الجندي ذكر “أن المدرهة شيء اعتاد أهل اليمن عمله منذ ذلك اليمني الذي حج أول حجة إلى مكة قبل الاسلام”، كما يذكر الكتاب أن هذه العادة كانت شائعة في صنعاء وخارجها، وفي كثير من المدن اليمنية، بدليل أن والي عدن الملقب (بالجزري) نصب مدرهة للسلطان المظفر علي بن عمر الرسولي، عندما ذهب إلى الحج سنة659هـ ، وقلده أغلب أعيان عدن في ذلك الوقت.

ومن جانبه يقول عبدالله موسى مدير البرامج في مركز الهدهد للدراسات الأثرية إنه “لا يوجد تاريخ محدد لمعرفة متى بدأت بضبط اول ظهور للمدرهة لكن الراجح انها من المائة الثانية للهجرة”.

صناعة المدرهة
اما بالنسبة لصنع المدرهة فقد كانت المداره قديما تؤخذ من أخشاب تتسم بالقوة والمتانة والطول ويشترط أن تكون الأخشاب من أشجار الطلح أو الرمان لقوتها ومرونتها، وقد أشار الشاعر الشعبي إلى ذلك بقوله:
يا المدرهة يا المدرهة وما لصوتش واهي
قالت: أنا واهية وما حدن كساني

وكسوتي رطلين حديد
لا والخشب رماني

ويتم إقامة المدرهة ونصبها، وتشد أخشابها بحبال يتم اختيارها من أقوى الألياف الطبيعية التي يتم فتلها بقوة ومتانة تعرف في اللهجة الصنعانية الدارجة بحبال السلب، وربما استعيض عنها بسلاسل شديدة تصنع من الحديد.

وتتعجب جحاف عند ذكرها لدقة حرصهم على ارتباط عادة المدرهة بالحج، أنهم يتعمدون عند نصبها، أن يكون اتجاهها، إلى الجهة الشمالية في الساحة التي تخصص لها، لكي تكون حركة المدرهة إلى الشمال في ذهابها وهو موقع الأراضي المقدسة والى الجنوب في إيابها وهو موقع الوطن.

ومن جميل ما تبرزه (مدرهة الحجاج) أنهم يتعاملون معها كما لو كانت كائن حي فيقدمون لها كسوة يلبسونها إياها ، عبارة عن قطع رمزية من ملابس الحاجة أو الحاج أو هما معا فالحاجة يضعون نماذج من ملابسها الثمينة كأن يكون (زنة أو قميص من الجرز والستارة التي اعتادت أن تلبسها عند خروجها من البيت إضافة الى بعض حليها ومصوغاتها وذلك أعلى المدرهة الى اليسار وإن كان الحاج (رجلا) فإنهم يضعون ثوبه وعمامته وجنبيته أعلى الجهة اليمنى.

ولا بد أن يتم تزين المدرهة بأغصان من الشذاب والريحان والعنصيف، وغيرها من النباتات العطرية، إضافة إلى تعليق جرس نحاسي على أحد جانبيها، ليصدرا أصواتاً ذات رنين موسيقي ، مصاحبا لحركة المدرهة في ذهابها وعودتها، ولعلهم بذلك يذكرون أنفسهم بتلك الأجراس التي كانت تعلق على أعناق قوافل الجمال، التي كانت أفضل وسيلة للسفر، وكما تحمل كل مدرهة اسم صاحبها الذي أقيمت لأجله أو اسم أسرته.

وتحرص أسرة الحاج، على نثر قدراً طيباً من مختلف أنواع الحبوب المتوفرة لديهم، على الأرض حول جوانب المدرهة، ليكون من نصيب الطيور وخاصة الحمام. تيمناً وتبركاً بالفضل الذي يرجونه من الله.

متى تبدأ فعالية المدرهة؟
تقول جحاف رحمة الله عليها” بداية صوت المسبح المرافق للحاج من لحظة انطلاقه من منزلة حين يبدأ بالأذان إيذانا ببدء الرحلة المقدسة ثم يرافقه في طريقه إلى نقطة انطلاقه وهو يؤدي بعض الموشحات الدينية الشجية التي تتحدث عن رحلة الحج والدافع لها والحنين لرؤية مكة المكرمة، ويضل يردد تلك الموشحات بمقامات صنعانية متميزة حتى لحظة توديع الحجاج وحينها يعود الأهل لإقامة المدرهة، وتبدأ عملية التدره الصباح والعصر للنساء وفترة الظهيرة للأطفال والليل لرجال وتنتهي تلك الفعاليات بمجرد أن يعلن ذلك الصوت الرخيم، عودة الحجاج عودا حميدا بغفران الذنوب فيقومون بإزالتها بعد استقبال الحاج بالزغاريد ومزاهر الشذاب وبخور التثوير وبهذا تكون فترة عمل المدرهة قديما حوالي أربعة أشهر قبل تطور وسائل المواصلات”.

أهازيج المدرهة
نص الْتَدْرِيْة أو التدروه وهي التسمية الشعبية التي تطلق على الأهزوجة الشعبية التي يقوم بترديدها المتدرهون أثناء (تدرههم) فوق المدرهة فهو اسم مشتق من فعل التَدَرِهْ نفسه وهو من النصوص التي تدخل ضمن النصوص الاجتماعية التي لها علاقة وثيقة بالمجتمع وعاداته وتقاليده.
وتشير جحاف رحمة الله عليها إلى أن نص الأهازيج مجهول المؤلف، شأنه في ذلك شأن الكثير من نصوص الأدب الشعبي، “وأن كنت أكاد أجزم بأنها قصيدة تنتسب إلى الغناء الشعبي النسوي، سواء من حيث طابعها العام الذي يغلب عليه طابع الحزن التراجيدي الذي اشتهرت به المرأة والذي كثيرا ما عبرت عنه بشكل غنائي عفوي : مثل قولها: (يا هل علمي يا أخوتي وما لقلبي غاثي) أو حين تقول متسائلة (ما بش خبر من حجنا) و (وما رزتش أكبادي) وغيرها من المفردات التي تميزت المرأة باستخدامها في المحكي اليومي دون الرجل”.
وتتابع جحاف رحمة الله عليها أن نص المدرهة يتكون من عدة مقاطع شعرية، قد يختلف تسلسلها وترتيبها اختلافات طفيفة من رواية إلى أخرى لكنها في مجملها بقيت محافظة على إطار كلي يروي حكاية هذه الرحلة المقدسة، التي يقوم بها الحاج، منذ استعداده وعزمه على السفر، فيقوم بكتابة وصيته وتوديع أهله وجيرانه، وطلب المسامحة منهم، قبل مغادرته لبيته مبتدأ رحلته للحج كجزء من العادات والتقاليد الاجتماعية التي يتداخل فيها الديني مع الشعبي والتي يعتقد أن صحة الحج لا تتم بدونها وقد عبر عن ذلك المقطع الذي يقول:-
وابي عزم مكة يحج وسامح الجيراني
ووصى بما يملك معه الله يوديه سالي

إلى أن تنتهي الرحلة باستقبال الحاج العائد:-
ويا أخو الحاج الكبير قوم القف الضيفاي
قوم اذبح الثور الكبير واضرب الطيساني
وفرش الديوان سوى ووضع المداكي

ما أهمية أحياء عادة المدرهة والحفاظ عليها؟
يقول موسى إن “المدرهة تمثل تراثا شعبيا نادرا وغير موجود في البلدان العربية بهذا الشكل وبهذه الطريقة ولذا يجب الحفاظ عليه بطرق صحيحة من خلال تسجيل الاهازيج. والكلمات المرتبط به وعمل معرض او متحف به ضمن الفلكلور والتراث الشعبي وعمل مداره في الاحياء القديمة من صنعاء القديمة لتضل مستمرة”
ويتأسف موسى من “منظمات المجتمع المدني التي أصبح همها التكسب باسم هذه الفعاليات بأحيائها لساعات محدودة او يوم او ايام في كل سنة ومن ثما يتجاهلون الموضوع حتي العام القادم، وانما كان الواجب هو عمل مستمر طوال العام حتي لا يندثر ذلك التراث الا مادي وتصبح الاجيال القادمة فارغة من تراثها المادي والا مادي”.