مسجد الأبهر في صنعاء: تاريخ وصور
كان مسجد الأبهر يُعرف قديماً باسم مسجد بنت الأمير، نسبة إلى مؤسسته السيدة فاطمة بنت الأمير الأسد بن إبراهيم بن الحسين أبي الهيجاء السروري، رئيس أكراد ذمار في سنة (776هـ/1374م). وهو من المساجد العامرة داخل مدينة صنعاء القديمة، حيث يقع في الجهة الجنوبية الغربية على الطريق المؤدي من السائلة إلى الجامع الكبير.
تمت أول توسعة للمسجد في عهد الإمام المتوكل قاسم بن الحسين في سنة (1161هـ/1748م) من الجهة الجنوبية، حيث أضيفت له قبة للضريح.
يدخل المسجد من باب تتقدمه ظلة في الجهة الشمالية، وهو الباب الرئيسي للمسجد. وأقيمت المئذنة، التي يعود بناؤها إلى القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي، بجواره. وعبر ممر طويل، يصل الباب بالصحن المكشوف (الصوح) الذي يشغل بيت الصلاة (البنية) جانباً منه، بينما توزعت بقية المرافق على الجوانب الأخرى.
بيت الصلاة يتألف في الأصل من ثلاثة أساكيب بصفين من الأعمدة، في كل صف منهما ثلاثة أعمدة ليس لها قاعدة، وتحمل تيجاناً مكعبة تشبه ما وجد في مسجد ظفار ذي بين، الذي تم بناؤه سنة (600هـ/1203م)، وتحمل السقف مباشرة.
عندما قام الإمام المتوكل قاسم بن الحسين بالزيادة، لم تمكنه المساحة الخلفية لبيت الصلاة من الامتداد نحو الجنوب بشكل متساوٍ مع جدار بيت الصلاة، وذلك لوجود عدد من قبور العلماء البارزين. ومن بين المدفونين بجوار مسجد الأبهر: عبدالله بن إبراهيم الديلمي المعروف بأبو شملة، المتوفى سنة 832هـ، وهو من أعيان دولة الإمام صلاح الدين وابنه الإمام المنصور؛ والعلامة أحمد بن إسماعيل الهبل، المتوفى سنة 1061هـ؛ والقاضي محي الدين العراسي، الذين دُفنوا في الجنوب الشرقي من بيت الصلاة السابق. لذا، جاءت الزيادة بإضافة ثلاث أساكيب، في كل أسكوب عمودان يحملان عقوداً مدببة.
يتصل بمسجد الأبهر من جهة الشرق محسنة الجوفي، وهي بئر ومصلى للنساء، وهي لم تعد موجودة في الوقت الراهن. أما المحسنة العظمى، التي تقع غرب مسجد الأبهر، فهي البئر وقبة السبيل، والتي قام بإنشائها يحيى بن الإمام المنصور بالله محمد بن يحيى حميد الدين سنة 1351هـ.
محراب مسجد الأبهر
يتوسط جدار القبلة محراب يبرز عن سمت الدار من الداخل بمقدار (30 سم). وقد اعتمد نظام المحاريب المجوفة، إذ تتوسطه حنية غائرة عمقها (120 سم) وعرضها (1 م). الجزء الأسفل منها خالٍ من الزخرفة، بينما شغل الجزء الأعلى منها شريطان زخرفيان. نُفذ على الأسفل كتابة بالخط الثلث، نصها: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾. وامتازت هذه الكتابة بميزات فنية، أهمها وجود الترويس في رؤوس الحروف المنتصبة مع إضافة (زلف)، وكذلك خاصية التشعير. يُلاحظ خلو النص من التشكيل، مع أنه نُفذ على مهاد زخرفي لتغطية الفراغ بين الحروف، وجاءت الكلمات متداخلة ومتراكبة ونُفذت بالحرف البارز للحرف والغائر للأرضيات.
يعلو الشريط الكتابي شريط زخرفي نفذت عليه عناصر زخرفية، اعتمدت في تكوينها على مبدأ تكرار وتناوب العناصر النباتية المتجانسة بعد ارتباطها مع بعضها من الأسفل بأغصان رشيقة منحنية على هيئة الأقواس المقلوبة.
أما سقف الحنية، فقد جاء على هيئة نصف قبة، شغلته زخارف نباتية من التوريق (الأرابسك)، قوامها مروحة نخيلية ثلاثية الفصول، تعلوها مروحتان نخيليتان بسيطتان تشبه كل منهما كوز الصنوبر. ينبت من هذه المرواح الثلاث، على الجانبين وبشكل متناظر، تفريعات نباتية دقيقة أفعوانية الحركة، تخرج منها مراوح نخيلية، وأنصاف مراوح نخيلية، وأوراق لوزية الشكل لتملأ السطح الزخرفي بأكمله.
يكتنف الحنية من كل جانب عمودان مندمجان شبه أسطوانيين، الأول منهما من الداخل، تغطي بدنه زخارف نباتية طمست معالمها بحيث لم يعد يُعرف موضوعها. يحمل تاجًا مكعب الشكل تغطيه زخارف نباتية من التوريق العربي (الأرابسك). يتركز على التاجين عقد ضام مدبب مطول الأرجل، نُفذ على واجهتيه كتابة بالخط الثلث على مهاد من الزخرفة النباتية، نصها: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)). وأُكملت المساحة المتبقية في واجهة العقد بالآية القرآنية الكريمة: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). وتتمثل بهذه الكتابة بعض الظواهر الفنية الموجودة في النص السابق، مثل الترويس والتشعير، فضلاً عن القطاع المسطح للحرف وتنفيذها بالحفر البارز للحرف والغائر للأرضيات. غير أن النص هنا امتاز عن سابقه بوجود حركات الشكل والزينة الخطية.
تدلى من بطن العقد ستارة جصية مخرمة، جاءت على هيئة عقد مدبب يحيط به من الجانبين بشكل متناظر يشبه الحرف اللاتيني (S). ربما قصد الفنان بهذا التصميم محاكاة الستائر النسيجية التي تتألف من قطعتين، شُدت كل منها إلى أحد الجانبين. وأقدم نماذج هندسية للستائر المخرمة في العصر الإسلامي نجدها في جامع دمشق (96هـ/714م)، وهي من الرخام المفرغ. أما الستائر الجصية المخرمة، فقد وجدت في مصر في جامع أحمد بن طولون. وانتشر بعد ذلك فن تخريم الستائر الجصية والرخامية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وما تزال أمثلة منه قائمة إلى اليوم في مصر، والشام، والعراق، وشمال أفريقيا، والأندلس، وغيرها من الأقطار.
يقول الباحث: “لقد نفّذ على المحراب حشد من الزخارف المتقنة، إلا أن عملية طلائه المستمرة بالدهان الحديث قد أفقدته رونقه وشوهت معالمه، وأصبح بحاجة إلى ترميم وإنقاذ سريع، ومنع صبغه سنوياً من قِبل فاعلي الخير حتى يمكن الحفاظ على ما تبقى من زخارفه الأصلية”.
منارة (مئذنة) مسجد الأبهر
يشير أحد الباحثين إلى أن المئذنة تعتبر من ضمن الإضافات التي قام بها الإمام المنصور بالله، حيث تم وصفها بأنها بنيت على غرار مئذنتي الجامع الكبير، إلا أنها أعلى منهما، وقد قدر ارتفاعها بـ 27.5 متر. زينت قاعدتها بشريط زخرفي يتكون من منحنيتين في كل ضلع من أضلاع القاعدة، ولها بدن أسطواني الشكل.
تقع المئذنة بجوار المدخل الشمالي للمسجد وتبتعد عن بيت الصلاة (البنية)، إذ يوجد ممر أمامها يؤدي إلى زقاق. تتكون المئذنة من قاعدة مربعة بعرض 5.40 متر، فتح في واجهتها الغربية مدخل يؤدي إلى سلمها. بني الجزء السفلي من الحجر، والعلوي من الآجر (الياجور الأحمر). زين الجزء العلوي بزخارف عبارة عن حنية بعقد مدبب في الوسط مغطاة بالزخرفة العربية المورقة، يطوقها عقد نصف دائري بحره مزخرف بزخرفة عربية مورقة أيضاً. زينت واجهة العقد بكتابة غير مقروءة نتيجة للتجصيص وبعدها عن مستوى سطح الأرض.
تشبه هذه الحنايا المحاريب، بينما تنتهي القاعدة من أعلى بمجموعة من حنايا مدببة تشغل جدرانها الأربعة. يعلو القاعدة بدن مقسم إلى قسمين: الأدنى ذو 16 ضلعاً بأضلاع مقعرة، والجزء العلوي أسطواني الشكل تتخلله فتحات صغيرة لغرض الإضاءة والتهوية. يشبه هذا البدن بدن مئذنتي الجامع الكبير بصنعاء (603هـ)، ومئذنة قبة المرادية (984هـ)، ومئذنة الفليحي ومئذنة فروة التي تم بناؤها في (994هـ).
يقوم على البدن شرفة تستند على 9 حطات من المقرنصات المثلثة الشكل. يعلو الشرفة جوسق مثمن الأضلاع زين منتصفه بشريط من الزخرفة الهندسية، وينتهي هذا البدن بنوافذ ذات عقد نصف دائري. تتوج المئذنة من أعلى قبة مضلعة ذات ثمانية أخاديد يزينها من أعلى ميل معدني يتكون من ثلاث جوازات وتنتهي بحلقة معدنية.
تعتبر مئذنة مسجد الأبهر من أجمل مآذن صنعاء، وإن خلت من الزخرفة. يُشاهد فيها التناسق التام بين أجزائها المعمارية، بالإضافة إلى الرشاقة والجمال الذي تتمتع به. لقد سار المعمار في بنائها على نسق مآذن صنعاء في القرن الحادي عشر الهجري مع انتمائها إلى القرن الثاني عشر الهجري، حيث تتكون من قاعدة مرتفعة مربعة وبدن مقسم إلى قسمين، مضلع وأسطواني، ثم شرفة يعلوها الجوسق المثمن، ثم القبة المضلعة ذات التضليعات الكبيرة.
المراجع:
- علي سعيد سيف، “مآذن صنعاء (حتى نهاية القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي)”، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004.
- غيلان حمود غيلان، “محاريب صنعاء (حتى أواخر القرن 12هـ/18م)”، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004.
- محمد أحمد الحجري، “مساجد صنعاء عامرها وموفيها”، وزارة المعارف؛ مكتبة اليمن الكبرى، صنعاء، 1361هـ