أول بنك في الجزيرة العربية: معلم تاريخي آخر مهدد بالاندثار في اليمن
لدى المرور من أسواق صنعاء القديمة يمكن للسائر في هذه الطرق الضيقة الضاربة في الماضي أن يصل إلى “سمسرة محمد بن الحسن”. هنا يوجد سوق الصرافة، حيث تقع بوابة السمسرة الخشبية على الجانب القبلي (باتجاه القبلة)، وفي أعلى البوابة لوحة كتب عليها: مركز شرطة. ما أن يفتح الحارس محمد الزبير البوابة حتى يطالع الداخل إلى السمسرة حجم الدمار والخراب في فنائها؛ حتى أن آثار حرائق عام 1948 لا تزال واضحة في السقوف الخشبية.
يقول الزبير إن التأخر في عمليات الترميم يفاقم حجم الدمار في المبنى عامًا بعد عام، مضيفًا أن هذا يؤثر بشكل مباشر على المحلات التجارية المجاورة داخل السوق، فقد تسبب سقوط غزير للأمطار خلال صيف 2020، حيث لا يوجد منافذ لخروج مياه الأمطار من السمسرة، بانهيارات في البناء أثّرت على عدد من محلات السوق منها محلات علي إبراهيم الثور، وأحمد دلال، وعبدالله البروي.
أول بنك في شبه الجزيرة العربية
سمسرة محمد بن الحسن، يذكر سامي محب الدين، مدير مركز الدراسات والتدريب المعماري التابع للهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية، هي أول بنك أو نظام مصرفي في شبه الجزيرة العربية.
سمسرة محمد بن الحسن، كما جاء في كتاب “صنعاء أسس التصميم المعماري والتخطيط الحضري في العصور الإسلامية المختلفة” من أقدم وأهم وأكبر (من حيث الحجم المساحي والفراغي ) السماسر في صنعاء القديمة.
أمر ببنائها الأمير محمد بن الحسن عام 1656، في سوق البز، حيث تمتد مساحتها التي تقارب الـ 230 ألف متر مربع وسط سوق الملح باتجاه الشمال. تطل الواجهة الرئيسية لمبناها على الجهة الجنوبية لمركز السوق، ويتكون من خمسة طوابق مع الدور الأرضي الذي يتوسطه فناء مفتوح.
ولذلك فإن السمسرة هي إحدى المعالم التاريخية بصنعاء القديمة وحسب القانون رقم (16) لسنة 2013 بشأن المحافظة على المدن والمناطق والمعالم التاريخية وتراثها الثقافي العمراني فإن المعلم التاريخي هو ” كل منشأة معمارية أو هندسية حية منفردة أو مجتمعة اكتسبت بسبب دورها التاريخي أو نمطها المعماري أو موقعها الطبيعي أو وظيفتها أو مواد بنائها قيمة تاريخية أو علمية أو فنية أو جمالية يجب المحافظة عليها وتشمل جميع المعالم التاريخية المأهولة الواقعة ضمن المدن والمناطق التاريخية”.
كما جاء في الكتاب المشار إليه أن السمسرة قامت بوظيفة الإيواء (نزل) للمسافرين والقوافل التجارية والخزن في فترة من فتراتها، ثم قامت بدور حفظ الأموال والذهب والفضة وغيرها من الودائع الثمينة (كوظيفة البنك في الوقت الحالي) إلى جانب القيام بتبادل النقود والعملات من الفضة والذهب.
وتتميز السمسرة بطابع معماري فريد حيث تحتوي على كثير من التفاصيل المعمارية منها وجود النقوش والعقود ذات الأحجام المختلفة (كبيرة ومتوسطة وصغيرة) ومتصلة ببعضها البعض ومقامة على الأعمدة الدائرية التي تنتهي بعدد من التيجان وتحتوي السمسرة من الداخل على “العديد من النقوش والكتابات وزخارف إسلامية”، بحسب ما جاء في الدراسة الميدانية لمشروع إعادة تأهيل واستخدام السماسر ضمن سور صنعاء القديمة.
وفي أعقاب فشل ثورة 1948 ضد الأمام يحيى حميد الدين (قتل)، أمر الإمام أحمد يحيى حميد الدين، في 11 مارس/ آذار 1948، القبائل بنهب صنعاء (مكافأة لهم على مناصرته وإفشال الثورة وعقاب لسكان صنعاء على مناصرتهم للثورة)، حيث قامت القبائل بنهب المحلات التجارية والمنازل؛ بلغ الأمر نهب النوافذ والأبواب، والعمل على قتل كل من يحاول الدفاع عمّا يملك، وضمن النهب تم نهب وإحراق سمسرة محمد بن الحسن التي كانت وقتها تحفظ أموال والممتلكات الثمينة الخاصة بالتجار.
وفي ذات السياق، أوضح الباحث والمؤرخ اليمني محمد عبد الرحيم جازم، أن التجار الذين كانوا مستأجرين لغرف السمسرة لخزن أموالهم، عندما دخلت القبائل لنهب صنعاء عام 1948 كان من الصعب السيطرة عليهم لأن عددهم كبير وفوضويين تم نهب السمسرة وإحراقها.
في الأثناء، يشير محمد علي الزبير، حارس السمسرة، إلى أنه حسب الروايات التي سمع بها حصل قتل أثناء النهب بين القبائل، وأنه كان هناك ممن يقومون بالنهب قد سقطوا في بئر السمسرة نتيجة التدافع وعدم رؤيتهم للبئر، ويقال إنه أثناء القتال بينهم لأخذ المنهوبات من بعضهم البعض كانوا يسقطوا في البئر مع الأموال “ريال فرانصي“.
ووفقاً للحاج علي قاضي، أحد أبناء صنعاء القديمة وهو في العقد الثامن من العمر، أن كثير من تجار المدينة تأثروا بنهب أموالهم التي في السمسرة منهم “بيت السنيدار وبيت غمضان وبيت عسلان وبيت الثور وبيت الزهيري”.
إهمال وتعدٍ على السمسرة
السمسرة الآن مهجورة لعدة أسباب منها تدمير أجزاء فيما الباقية آيلة للسقوط، ووجود نزاعات على الملكية (بين الورثة)… وفي ضوء ذلك يتحدث الزبير بأنه عام 2000 “تقريباً” قامت إحدى قبائل أنس من أسرة راجح بدخول السمسرة بالقوة وكسر قفل بوابة السمسرة والاستقرار والعيش فيها مع أسرهم وجلس الوضع هكذا لمدة سبع سنوات بحيث أنهم “احتلوا السمسرة” حتى عام 2006 أو 2007 تقريباً حين نزلت حملة أمنية من منطقة أمن صنعاء القديمة “بقيادة حميد بجاش” وأخرجت عائلة راجح بقوة السلاح، وأبقي على قوات أمنية داخل السمسرة من أجل حمايتها إلى الآن.
في المقابل، يشير جازم إلى أن السمسرة أُهمِلَت وتهدمت بمرور الزمن، حيث كانت مياه الأمطار “السيول” تدخلها بما أحدث تأثيرات فيها، رغم ذلك لم تتدمر بصورة نهائية لأن بنيتها قوية وتعتبر أضخم السماسر في صنعاء القديمة.
ووفقاً للمادة رقم (64) من القانون بشأن المحافظة على المدن والمناطق والمعالم التاريخية وتراثها الثقافي العمراني تنص على أنه يجوز للهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية “القيام بأعمال التدعيم أو الترميم أو الصيانة الضرورية لحماية أي مبنى أو معلم تاريخي مهجور ضمن الموقع المسجل وذلك في أي من الحالات التالية:
– وجود دلائل تشير إلى إمكانية انهياره.
– إذا كان يشكل خطراً على السلامة العامة وسلامة المارة والجوار.
– وجود احتمالات لطمس أو لاندثار أو لفقدان أيا من خصائصه أو زخارفه أو أجزاء منها بشكل لا يمكن تعويضه”.
ووفقاً للباحث جازم، فإنه أثناء الحملة الدولية لحماية صنعاء القديمة عام 1987، أبدت الحكومة اليابانية استعدادها للتكفل بتمويل عملية ترميم سمسرة محمد بن الحسن بناء على المخططات والرسومات التي تم عملها وقتها – وهي موجودة حالياً لدى الهيئة – لكن توقف العمل على الترميم لعدة أسباب منها حرب صيف 1994 ووفاة أ. عبد الرحمن الحداد الذي شغل منصب مدير المكتب التنفيذي للمحافظة على صنعاء القديمة والمدن التاريخية وأحد أهم المدافعين عن الحفاظ على صنعاء القديمة، وتم إهمال مسألة ترميم والحفاظ على السمسرة على الرغم من وجود الرسومات والمخططات لعملية الترميم وحجم المبالغ التي سوف تحتاج لها للترميم.
على الجانب الآخر، يتحدث محب الدين بأن السمسرة تعرضت للإهمال وكل ما تأخر الوقت تفقد السمسرة عناصرها المعمارية الفريدة، ويشكل ذلك خطر على المعلم التاريخي، إلا أنها ليست الوحيدة التي تعرضت للإهمال فهناك سمسرة المجة وسمسرة العمراني وغيرها معرضة للإهمال.
ويُرجِع محب الدين سبب إهمال السمسرة إلى وجود نزاع حول ملكية السمسرة، إلى جانب ضعف أو عدم وجود التنسيق بين الجهات الحكومية المختلفة “الهيئة، وزارة الأوقاف، وزارة الثقافة” تعيق أي عملية للترميم، إلى جانب أنه وحسب الدراسات فإن تكلفة ترميم السمسرة باهضه لأنها ذات مساحة كبيرة وتفاصيل كثيرة.
تعارض وتضارب الصلاحيات والاختصاصات
يوضح جازم أنه قام بالعمل مع زملاء له في الهيئة العامة على الحفاظ على المدن التاريخية وذلك بفتح نقاش من أجل إيجاد تمويل خارجي لإعادة ترميم السمسرة، إلا أن وزارة الأوقاف منعت ذلك، وقيل لهم إن السمسرة تخصهم وسوف يعملون على ترميمها وإنهم قاموا برصد مليار ريال للترميم.
وأضاف أن المشكلة هي مشكلة تداخل الاختصاصات والصلاحيات فالأوقاف معترضين على فكرة تدخل الهيئة في الترميم. “الجهات الحكومية هي من تعرقل إعادة بناء السمسرة وإصلاحها”، قال.
ونوه إلى أن المخططات الهندسية كانت قائمة للتنفيذ “م. عبد الله الحضرمي وغيره من المهندسين قاموا عليها” وكانت طريقة الترميم قائمة بنفس البناء لكن كل الجهود ذهبت هباء بسبب التدخلات من الأوقاف من الثمانينات إلى الآن والعملية مستمرة والعرقلة مستمرة.
وفقاً للمادة(77) من القانون الحفاظ “يحق للهيئة استملاك أي مبنى أو معلم تاريخي واقع ضمن الموقع المسجل مع حقوق الارتفاق الخاصة به متى اقتضت المصلحة العامة ذلك بتعويض عادل وفقاً لأحكام قانون الاستملاك للمنفعة العامة.”
عند الإشارة لنص القانون من قبلنا، أوضح م. سامي محب الدين أن القانون له توضيحات ولوائح حيث لا بد من وجود ميزانية خاصة بالهيئة ليتم بعد ذلك تثمين المعلم التاريخي لتستطيع تسليم تعويضات للورثة.
وأضاف أن هناك حاجة لتمكين الهيئة لتكون قادرة على الحصول على تمويلات لتوجه إشكالية الترميم في المدن والمعالم التاريخية والعمل على الحفاظ عليها لكن الواقع أن الهيئة تواجه صعوبات في هذا الجانب. وأنه من أجل إعادة الترميم والحفاظ على المعلم إلى تخصيص ميزانية وتمويل من قبل الشركاء المحليين والدوليين.
في المقابل، أوضح سمير الشوافي مدير إدارة التدريب بمركز الدراسات والتدريب المعماري “أن القانون ضعيف في هذه الناحية أو من ناحية إنفاذ القانون”.
رؤية مستقبلية
أوضح م. محب الدين إن هناك رؤى مستقبلية تعمل الهيئة على إعادة ترميم السمسرة بناء على المخططات القديمة “الموجودة سابقاَ”، مضيفاً أنه كانت هناك خطة لعمل دراسة تفصيلية وتاريخية عن سمسرة محمد بن الحسن بالاستعانة وقتها بكلا من أ. محمد الغراسي وأ. محمد عبد الرحيم جازم من أجل التوثيق، إلا أنه بحسب حديثه توقف هذا النشاط بسبب الأوضاع التي نمر بها حيث تم إعادة ترتيب الأعمال الإدارية بما في ذلك إحداث تغييرات إدارية في المناصب داخل الهيئة.
كذلك أوضح أن واحدة من أهم وسائل الحفاظ على المعلم التاريخي هي التوثيق للمعلم بطريقة حديثة في حالة تعرض هذا المعلم للانهيار يتم إعادة بناءه على نفس النسق السابق للمعلم وتفاصيله.
ووفقاً لـ م. محب الدين فقد عُقِد اجتماع بين قيادات الهيئة وممثلين عن الأوقاف وزارة الثقافة ووفود من منظمة اليونسكو وطُرِحت مسألة التنسيق بين الجهات الحكومية المختلفة في المعالم التاريخية المشتركة كالمساجد، والسماسر، واصفاً ذلك الاجتماع بالمؤشر الجيد وأنه نال إعجاب وفود اليونسكو، مضيفاً أن اليونسكو لن تستطيع المساعدة في مسألة الحفاظ على المدن والمعالم التاريخية مالم يكون هناك تنسيق مسبق بين الجهات المختلفة داخل الدولة، وتم وقتها عمل زيارة ميدانية للسمسرة. وقد أكد الزبير على تكرار عدد الزيارات في الفترة الأخيرة لكلٍ من الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية ووزارة الأوقاف ووفود من اليونسكو.