تقرير عن تحديات اللغة السقطرية بين البقاء وغياب التكنولوجيا

تقرير عن تحديات اللغة السقطرية بين البقاء وغياب التكنولوجيا
العمل الفني من نوران مرسي للأصوات العالمية (جلوبال فويسز)

تقرير جلوبال فويسز عن تحديات اللغة السقطرية بين البقاء وغياب التكنولوجيا: ضعف البنية التحتية للإنترنت يعيق حرية التعبير والحفاظ على اللغة

من قلب اليمن، تهمس اللغة السقطرية التي تنتشر في أرخبيل سقطرى من مكانتها على حافة الانقراض. تعتبر هذه اللغة كنزًا شفهيًا قديمًا، يتلاشى، مختنقًا بموجة من اكتساح اللغة العربية، والحرب المدمرة التي تدور رحاها على أرض اليمن منذ عام 2015، ورياح التغيير في موازين القوى في المنطقة.

لطالما صمد أرخبيل سقطرى من التهميش، والإقصاء، والانعزال مع تعاقب الأنظمة على اليمن. إلا أن سقطرى كانت من أكبر الخاسرين في الرهانات السياسية التي ألقت بظلالها على واقع الناس واللغة. حجب ضباب التهميش كينونة سقطرى الثقافية، وحراكها اللغوي والأدبي، حيث لا تزال حتى اللحظة في صراع مع الانفتاح التكنولوجي.

حافظ سكان الجزر على التزامهم في التواصل بلغتهم الأم، بالرغم من افتقارهم للخدمات الأساسية مثل الإنترنت وشبكة الاتصالات، مما أفضى إلى تقيّد حرية تعبير السقطريين بشكل كبير، كما أثر سلبًا في معركة بقاء اللغة السقطرية أمام كل التحديات والمخاطر التي واجهتها منذ القدم، وحتى اللحظة.

من ناحية أخرى، تسببت هذه العزلة في الحفاظ على الموروث الثقافي اللغوي في الأرخبيل، فأدت الطفرة التكنولوجية غير المدروسة، والتي تسارعت وتيرتها فجأة، بسبب تغير الأوضاع السياسية في الأرخبيل، ودخول الإمارات العربية كلاعب جديد على الجزيرة، في إخفاء الكثير من المعالم اللغوية، والثقافية للسقطريين، فصار وجودها لا أثر له يلامس واقعًا، ويرى متابعين، من أن وجودها كان مثل السيف ذو حدين. .

لكن لنبدأ من البداية، ما هي اللغة السقطرية، وأين تنتشر هذه اللغة؟

تعتبر جزر أرخبيل سقطرى، متحفًا تاريخيًا طبيعيًا؛ كسفينة عملاقة راسية في المحيط الهندي، تتلاطم بها الأمواج من الممرات البحرية في موقعها الاستراتيجي الذي يربط بين الشرق الأوسط، وآسيا، وإفريقيا، كما أنه طريق عبور رئيسي لناقلات النفط.

يتكون الأرخبيل من أربع جزر رئيسية، تحتوي على محميات طبيعية، وأشجار نادرة، حيث وضعتها منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي في 2008. لا تخلو الثقافة السقطرية من جملة من الأساطير التي قيلت عنها، مثل كونها موطن طائر العنقاء الخرافي، حيث يبني عشه من عيدان القرفة، والهيل، والقرنفل، والزعفران، كما أنها موطن طائر “الرخ” الذي حمل السندباد بمخالبه، وطاف به العديد من أقطار العالم.

السقطريين هم مجموعة عرقية أصلية تنسب إلى قبيلة المهرة القحطانية، يتحدثون اللغة السقطرية إلى جانب العربية، اللغة الرسمية في اليمن، ويقدر عددهم 71 ألف متحدث، حسب تعداد إثنولوج.

يُعرف  أحمد الرميلي، الباحث  في التراث والتاريخ السقطري، اللغة السقطرية بأنَّها: “لغة شفهية غير مكتوبة في الوقت الراهن، تنتمي إلى عائلة اللغات السامية “،  كما يلفت إلى عدد من الخصائص التي تميز بها اللغة عن غيرها، “مثل وجود أحرف لا وجود لها في العديد من اللغات السامية، ومنها (الشين الجانبية) أو (السين الثالثة)”.

غالبًا ما يتم الخلط بين اللغة السقطرية والعربية،  إلا أنها تصنف رسميًا على أنها من اللغات الإفريقية آسيوية السامية، حيث تنتمي إلى عائلة اللغات العربية الجنوبية. بالرغم من هذه الخصائص، لم يتم الاعتراف باللغة السقطرية كلغة رسمية، مما أدى إلى وضعها في بوتقة من الجمود باعتبارها لهجة وليست لغة.

في هذا السياق، وفي حوار ما بين الأستاذ صالح الحجار، مستشار محافظة سقطرى لشؤون الثقافية سابقًا، جلوبال فويسز حول اعتبار اللغة السقطرية لغة لا لهجة، قال:

“لكل لغة تتكون من اسم وفعل وحرف، ولغتنا السقطرية، تتكون من اسم وفعل وحرف وتصاريف الأفعال ومصادرها والجمع بكل أنواعه، واسماء الزمان والمكان والمبالغة، ناهيك عن ادبها الثري، وقصائدها الشعرية الطويلة تضاهي معلقات الشعر الجاهلي وفنونها المتنوعة.”

ما واقع الهوة التكنولوجية في اليمن؟

سقطرى، صورة من blackseav, ويكيميديا كومونز. CC BY 3.0.
سقطرى، صورة من blackseav, ويكيميديا كومونز. CC BY 3.0.

يشهد اليمن منذ عام 2015 حربًا مدمرة ما بين التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات، وبين المتمردين الحوثيين الذين تحالفوا مع القوات الموالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح، الذي سلّم السلطة بعد احتجاجات الربيع العربي في عام 2011. لكن صالح غير موقفه في عام  2017، حيث دعا إلى الحوار مع السعودية، مما أدى إلى قتله على يد الحوثيين يوم 4 ديسمبر/ كانون الأول 2017.

وصفت الأمم المتحدة الأزمة  في اليمن بأنها أسوأ أزمة إنسانية في العالم، حيث شهدت مقتل أو إصابة عشرات الآلاف من المدنيين وأدّت إلى تهجير 3.3 مليون آخرين، إضافة إلى معاناة 80 بالمائة من السكان من المجاعة، وسوء التغذية، ومن أمراض أخرى.

نسبة إلى منظمة أكسس ناو في تقريرها 25 يونيو/حزيران 2020:

“تنعكس هذه الوقائع الفظيعة للحرب أيضا على شبكة الإنترنت والبنية الأساسية للاتصالات، حيث أصبحت هذه الفضاءات ساحة لمعارك بسط النفوذ والسيطرة، إضافة إلى استغلال الاتصال بالانترنت أو حجبه لخدمة أهداف عسكرية. نتيجة لذلك، يحُرم الملايين من اليمنيين من حقوقهم في التواصل والوصول إلى المعلومات وتبادلها، والأهم من ذلك أنهم حُرموا من تقاسم واقعهم وتجاربهم التي يعيشونها، وهذا ما أدّى إلى زيادة تدهور ظروفهم.”

أكد المركز اليمني للسياسات  على حجب العديد من المواقع الإلكترونية، واستهداف البنية التحتية للاتصالات بضربات جوية،  منذ بداية الحرب في 2015. لم يكن بوسع شركات الاتصالات في القطاعين العام والخاص إعادة صيانة محطات ومرافق الاتصالات أو ترقيتها بسبب الحصار المفروض على اليمن.

في بداية يناير/ كانون الثاني عام 2022، تسبّبت أعمال تخريبية بإلحاق ضررٌ بإحدى أسلاك الألياف الضوئية تحت الماء، مما أدى في خفض قدرة الإنترنت بنسبة 80 بالمائة مؤثرة على 28 مليون مواطن يمني، حيث أدى ذلك إلى عزل اليمن عن العالم.

كيف أثر غياب التقنية على تدوين اللغة السقطرية وانتشارها؟

سقطرى، صورة من رود وادينغتون, فليكر .CC BY-SA 2.0
سقطرى، صورة من رود وادينغتون, فليكر .CC BY-SA 2.0

تعد قضية الحقوق الرقمية والتكنولوجيا من أهم القضايا التي تمس السقطريين. ساهم غياب الخدمات التكنولوجية الأساسية في تقييد حرية تعبير الشعب السقطري، وأثر بشكل على تطور اللغة، خاصة من ناحية التدوين وبالتالي بقاءها، مما أثر بالضرورة على حرية تعبير السقطريين. من أهم المخاطر المحتملة على اللغة السقطرية هو عدم تدوين اللغة والأدب السقطري، والتي ما يزال يحتفظ بها كبار السن السقطريين.

بلغ معدل انتشار الإنترنت في اليمن 26.7 بالمائة، مما يعني أن 22.59 مليونًا من أصل 33 مليون شخص في اليمن يفتقرون إلى الوصول إلى الإنترنت اعتبارًا من بداية عام 2022.

في حوار ما بين عدد من الأكاديميين والمثقفين السقطريين مع جلوبال فويسز، صرح المهندس سكندر محمد الثاني، مدير عام مؤسسة الاتصالات وتقنية المعلومات في محافظة سقطرى بأن غياب الإنترنت، لم يكن العائق الوحيد في انتشار اللغة السقطرية، فاللغات الأخرى انتشرت قبل ظهور ثورة المعلومات التكنولوجية والإنترنت، موضحًا بأن هناك مشكلة أكبر تواجهها اللغة السقطرية وهي بأنها لغة غير مكتوبة. “حتى يتمكن السقطري من نشر لغته وتعريفها عالميًا، لابد أولًا من تحويل اللغة السقطرية من لغة منطوقة إلى لغة مكتوبة، بعد ذلك يمكن للتكنولوجيا أن تساهم في انتشارها وتعريفها عالميًا.”

وضح أيضًا بأن غياب الإنترنت في سقطرى يعتبر عاملًا مؤثرًا في إضعاف مطالبات المهتمين والمختصين باللغة السقطرية باعتبارها لغة وليست لهجة؛ كما أن ذلك يؤثر على المتطلبات في شتى مناحي الحياة، وليس اللغة فقط.

” …أصبحت التكنولوجيا في هذا العصر، هي من توصل صوت الشعوب إلى صناع القرار… وجود خدمة الإنترنت الثابت، بوضعيته الراهنة في جزر سقطرى، والتي تم إدخالها في عام 2010، لا تخدم الشعب السقطري، لأنها خدمة ضعيفة جداً، مقارنة بما وصلت إليه دول العالم من ثورة المعلومات والتكنولوجيا”.

يرى أن أسباب ذلك يعود، ربط اتصالات سقطرى المركزية، عبر الأقمار الصناعية، وهي خدمة مكلفة جدًا.

أما الأكاديمي السقطري الدكتور أحمد تربهي فقد أكد على وجهة النظر هذه، قائلًا: “أدى غياب الإنترنت عن الشعب السقطري إلى عدم تدوين اللغة السقطرية، والحفاظ عليها، لكونها إرث حضاري فريد من نوعه، مما يؤثر على استخدام اللغة، وأضاف:

“إن ضعف الإنترنت من خلال معطيات الخدمة المتوفرة حالياً، والتي لا تفي بالغرض، وانعدام خدمة الإنترنت في غالبية مناطق سقطرى، بالإضافة إلى إرتفاع سعر الإشتراك إلى مستوى لا يتناسب مع دخل الفرد، هي أبرز الأسباب التي ساهمت في عدم إنتشار اللغة السقطرية”.

وضح مستشار المحافظة لشؤون الثقافية الأستاذ صالح الحجار أن غياب التقنية…

 “أدى  إلى عدم قدرة السقطريين على التأليف والطباعة، بل ساهم على عدم تكوين الأساسيات، والذي قد ربما تساعدهم التكنولوجيا الحديثة على إيجاد الحروف، ومعرفة الفمونيات الصوتية التي تنفرد بها اللغة السقطرية عن غيرها، فوجود التكنولوجيا في جزر أرخبيل سقطرى، تعد ضرورة ملحة لانتشار اللغة السقطرية.”

كيف تؤثر التحديات اللغوية على حرية تعبير السقطريين؟

شجرة دم التنين. سقطرى، صورة من رود وادينغتون, فليكر .CC BY-SA 2.0.
شجرة دم التنين. سقطرى، صورة من رود وادينغتون, فليكر .CC BY-SA 2.0.

بالرغم أن قلب الثقافة السقطرية نابض بالحياة، إلا أنها مهددة بالانقراض بسبب إهمال الحكومات والسلطات اليمنية المتعاقبة، بالثقافة واللغة السقطرية، بالإضافة إلى عدم تخصيص الموارد اللازمة لإدراج اللغة المهرية والسقطرية ضمن المناهج الدراسية، وتخصص وسائل إعلامية مختلفة مثل إذاعة محلية في سقطرى، وإنشاء قناة تلفزيونية باللغة السقطرية. في نفس الوقت هناك غياب في الدعم لتوثيق التراث الفني، والثقافي، والأدبي، واللغوي السقطري، إلى جانب استحداثات البناء العشوائي دون دراسة خصوصية الجزيرة، مما أثر سلبا على الأرخبيل، وأضر ببيئته الفريدة من نوعها.

أدى موقع سقطرى الجغرافي  المنعزل، وانغلاقها على نفسها إلى الحفاظ على اللغة بشكل موروث. فالأطفال يتعلمون اللغة في المنزل ثم يتعلمون اللغة العربية في المدرسة.  لكن طريقة الحياة سكان الأرخبيل اختلفت مؤخرًا، عقب الانفتاح المفاجئ الذي حدث على الجزيرة، إثر موجات النزوح  بسبب الحرب، ودخول دول إقليمية في الأرخبيل. حيث قامت دولة الإمارات على سبيل المثال بربط شبكة الإنترنت في الجزيرة في عام 2020 باستبدال شبكة الإنترنت اليمنية بشبكة الإنترنت الإماراتية. في عام 2023، قامت الإمارات بقطع خدمة الهاتف الأرضي وشبكة الهاتف المحمول في اليمن، لصالح شبكة الاتصالات الإماراتية.

لا يخفي السقطريون مخاوفهم من تأثير هذه التغيرات على ثقافتهم ولغتهم.

حسب الأستاذ عمر سليمان بن قبلان، مدير عام مكتب الثقافة سقطرى في حوار مع جلوبال فويسز:

 “هنا مخاوف على اللغة السقطرية، بحكم اختلاط سكان جزر سقطرى بسكان من خارجها خصوصًا الوافدين إلى المدن.” تؤدي هذه التغييرات لتجريف الهوية، والتراث، والثقافة السقطرية، من خلال خلط ثقافي وخلط في الألفاظ. يصعب على الوافدين التحدث باللغة السقطرية، مما يؤثر على اللغة  في المدن الرئيسية  في الارخبيل.”

على هذه الخلفية، حاولت النخبة الشبابية من المثقفين والمهتمين، مواجهة القيود المفروضة عليهم. استطاع أهل سقطرى مؤخرًا إنشاء “مركز اللغة السقطرية للدراسات والبحوث في  9 مايو/أيار 2023، خاصة بعد الشعور بتهديد لغتهم، وهويتهم، وطريقة حياتهم. جاءت هذه الخطوة بعد أيام فقط من انعقاد اللقاء التشاوري الجنوبي في العاصمة عدن، وإعلان الميثاق الوطني الجنوبي الذي نص على اعتماد اللغتين المهرية والسقطرية بشكل رسمي في أقاليمها.

يرى الصحفي عبد الرحمن جسفي أن المركز سيلعب دورًا مهمًا في النهوض باللغة السقطرية، من خلال توصيات المركز، التي كان من ضمنها إدراجها كمادة أساسية في مقررات الفصول المدرسية الابتدائية.

وسط كل هذه التحديات، تواجه اللغة السقطرية خطر الانقراض، ولكنها تزدهر بفضل تصميم شعبها. مصيرها غير واضح في ظل التوازن الدقيق بين التقاليد والحداثة، مما يؤكد على الحاجة إلى الاعتراف، والحفظ، والتكيف، مما يعكس الروح المرنة للمجتمع الملتزم بضمان استمرار اللحن السقطري الفريد عبر الزمن.

كتب: السقطري عبدالكريم بن قبلان

نقلا عن: جلوبال فويسز